الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن الجوزى: أما الجحيم؛ فقال الفراء: الجحيم: النار، والجمر على الجمر.وقال أبو عبيدة: الجحيم: النار المستحكمة المتلظية.وقال الزجاج: الجحيم: النار الشديدة الوقود، وقد جحم فلان النار: إذا شدد وقودها، ويقال لعين الأسد: جحمة لشدة توقدها.ويقال لوقود الحرب، وهو شدة القتال فيها: جاحم.وقال ابن فارس: الجاحم: المكان الشديد الحر.قال الأعشى:ولذلك سميت الجحيم.وقال ابن الأنباري: قال أحمد بن عبيد: إنما سميت النار جحيمًا، لأنها أكثر وقودها، من قول العرب: جحمت النار أجحمها: إذا أكثرت لها الوقود.قال عمران بن حطان: .قال في الأمثل: أصلان تربويان:البشارة والإِنذار أو التشجيع والتهديد من أهم الأُصول اللازمة للتربية وللحركة الاجتماعية. ينبغي أن يلقي الفرد تشجيعًا على أعماله الصالحة، وتوبيخًا على أعماله الطالحة، كي يواصل مسيره الأول، ويرتدع عن ارتياد المسير الثاني.التشجيع وحده لا يكفي لدفع الفرد والمجتمع على طريق التكامل، لأن الانسان سوف يكون مطمئنًا من عدم الخطر في حالة إرتكاب المعاصي.على سبيل المثال، نرى ارتكاب المعاصي بين النصارى الحاليين أمرًا عاديًا، لأنهم يعتقدون بالفداء، أي بأن السيد المسيح عليه السلام قد ضحى بنفسه لغفران ذنوب أتباعه، أو لإِعتقادهم بأن أحبارهم قادرون أن يغفروا لهم ذنوبهم بسبل شتى، منها منحهم صكوك الغفران. أو يبيعون لهم الجنّة مثل هؤلاء القوم يسمحون لأنفسهم إرتكاب الذنوب بسهولة.جاء في قاموس الكتاب المقدس:... الفداء أيضًا إشارة إلى كفارة دم المسيح، الذي أخذ على عاتقه كل ذنوبنا وتحمل ذنوبنًا في جسده على الصليب.هذا المنطق يجعل الأفراد دون شك جريئين على ارتكاب المعاصي.بعبارة أخرى، من يرى أن التشجيع وحده كاف لتربية الإِنسان طفلا كان أم كبيرًا، وضرورة ترك التهديد والتقريع، فهو مجانب للصواب ومخطئ تمامًا.وهكذا أُولئك الذين يعتقدون أن التربية ينبغي أن تقوم على أساس التخويف والتأنيب لا غير.الفريقان المذكوران خاطئان في فهم الإِنسان، حيث إن الإِنسان يتجاذبه كلّ الخوف والرجاء، حبّ الذات وكره الفناء، تحصيل المنفعة ودفع الضرر. وهل يمكن لموجود يحمل في ذاته هذين البعدين أن يربّى وفق بعد واحد؟!والتعادل ضروري بين هذين الجانبين، فلو تجاوز التشجيع حدّه لأدّى إلى التجرؤ والغفلة، ولو تعدّى التخويف حدّه لبعث على اليأس والقنوط وانطفاء شعلة الشوق والتحرك في النفوس.ممّا سبق نفهم سبب اقتران البشارة بالإِنذار أو البشير بالنذير في القرآن الكريم، فتارة تقدم كلمة البشير على النذير كالآية التي نحن بصددها: {بَشيرًا وَنَذِيرًا} وتارة تقدم كلمة النذير كقوله تعالى في الآية 188 من سورة الأعراف: {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْم يُؤْمِنُونَ}.واكثر الآيات القرآنية في هذا المورد تتقدم فيها صفة البشير، ولعل ذلك يعود إلى أن رحمة الله من حيث المجموع سابقة على غضبه: «يَا مَنْ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ». اهـ..من لطائف وفوائد المفسرين: .من لطائف القشيري في الآية: قال عليه الرحمة:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}.أفردناكَ بخصائص لم نُظْهِرْها على غيرك؛ فالجمهور والكافة تحت لوائك، والمقبول من وافَقَك، والمردود من خالفَك، وليس عليك من أحوال الأغيار سؤال، ولا عنك لأحدٍ.... اهـ..من فوائد ابن عرفة في الآية: قال رحمه الله:قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق}.الظاهر أن المعجزات هي المراد.وقدم البشارة على النذارة لأنّ القاعدة في محاولة الأمور الصعبة أن يبدأ فيها بالتلطّف والتيسير ليكون أدعى للقبول، كما إذا كان لك جمل معك وأردت أن تدخله موضعا فإنك تسايسه بربيع تطعمه له أو تفتل شعره أو نحو ذلك، كما قال: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا} قوله تعالى: {وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم}.الظاهر أنها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. اهـ..من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة: قال رحمه الله:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} الْآيَةَ فِيهِ وُجُوهٌ:أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى حَادِثَةٍ وَقَعَتْ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِسَبْعِينَ سَنَةً، وَهِيَ دُخُولُ تَيْطَسَ الرُّومَانِيِّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَتَخْرِيبُهَا حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ تَلًّا مِنَ التُّرَابِ، وَهَدْمُهُ هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ عليه السلام حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا بَعْضُ الْجُدُرِ الْمُدَعْثَرَةِ، وَإِحْرَاقُهُ مَا كَانَ عِنْدَ الْيَهُودِ مِنْ نُسَخِ التَّوْرَاةِ، وَكَانَ الْمَسِيحُ عليه السلام قَدْ أَوْعَدَ الْيَهُودَ بِذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ أَتْبَاعَ الْمَسِيحِ هُمُ الَّذِينَ هَيَّجُوا الرُّومَانِيِّينَ وَأَغْرَوْهُمْ بِهَذَا الْعَمَلِ.قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا أَدْرِي هَلْ يَصِحُّ هَذَا الْخَبَرُ أَمْ لَا، فَإِنَّ قَائِلِيهِ لَمْ يَأْتُوا عَلَيْهِ بِأَدِلَّةٍ وَلَا بِنُقُولٍ تَارِيخِيَّةٍ، وَلَكِنَّنِي أَعْلَمُ أَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ عَلَى قِلَّتِهِمْ وَتَشَتُّتِهِمْ وَاسْتِخْفَائِهِمْ مِنِ اضْطِهَادِ الْيَهُودِ كَانُوا قَدْ وَصَلُوا إِلَى رُومِيَّةَ وَكَانُوا يَوَدُّونَ الْإِيقَاعَ بِالْيَهُودِ الَّذِينَ اضْطَرُّوهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ بِلَادِهِمُ انْتِقَامًا مِنْهُمْ، وَتَحْقِيقًا لِوَعِيدِ الْمَسِيحِ، وَأَنَّ الرُّومَانِيِّينَ- وَإِنْ كَانُوا وَثَنِيِّينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْيَهُودَ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ- لَمْ تَكُنْ حُرُوبُهُمْ دِينِيَّةً وَإِنَّمَا كَانُوا يُحَارِبُونَ الْيَهُودَ وَغَيْرَهُمْ لِشَغَبِهِمْ وَفِتَنِهِمْ أَوْ لِلطَّمَعِ فِي بِلَادِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَقْضِي بِهَدْمِ الْمَعْبَدِ وَإِحْرَاقِ كُتُبِ الدِّينِ، فَهَذِهِ قَرَائِنُ تُرَجِّحُ أَنَّهُ كَانَ لِلْمَسِيحِيِّينَ يَدٌ فِي إِغَارَةِ تَيْطَسَ، وَلَكِنْ لَا يُجْزَمُ بِهِ إِلَّا إِذَا وُجِدَ نَقْلٌ تَارِيخِيٌّ صَحِيحٌ يُؤَيِّدُ الْخَبَرَ.وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ الْآيَةَ فِي اتِّحَادِ الْمَسِيحِيِّينَ مَعَ بَخْتِنْصَرَ الْبَابِلِيِّ عَلَى تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ أَنَّ حَادِثَةَ بَخْتِنْصَرَ كَانَتْ قَبْلَ وُجُودِ الْمَسِيحِ وَالْمَسِيحِيَّةِ بِسِتِّمِائَةٍ وَثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُؤَرِّخًا مِنْ أَكْبَرِ الْمُؤَرِّخِينَ لَالْتُمِسَ لَهُ الْعُذْرُ بِحَمْلِ قَوْلِهِ عَلَى حَادِثَةِ أَدْرِينَالَ الرُّومَانِيِّ الَّذِي جَاءَ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةٍ، وَبَنَى مَدِينَةً عَلَى أَطْلَالِ أُورْشَلِيمَ وَزَيَّنَهَا وَجَعَلَ فِيهَا الْحَمَّامَاتِ، وَبَنَى هَيْكَلًا لِلْمُشْتَرَى عَلَى أَطْلَالِ هَيْكَلِ سُلَيْمَانَ، وَحَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ دُخُولَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ، وَجَعَلَ جَزَاءَ مَنْ يَدْخُلُهَا الْقَتْلَ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ الْيَهُودُ يُسَمُّونَهُ بَخْتِنْصَرَ الثَّانِيَ لِشِدَّةِ مَا قَاسَوْا مِنْ ظُلْمِهِ وَاضْطِهَادِهِ. وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا لِلْمُؤَرِّخِ.الثَّانِي: ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} نَزَلَ فِي مَنْعِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ فِي قِصَّةِ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّ حَادِثَةَ الرُّومَانِيِّينَ كَانَتْ قَدْ طَالَ عَلَيْهَا الْأَمَدُ فَلَا مُنَاسَبَةَ لِإِرَادَتِهَا بِالْآيَةِ.وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَا سَعَوْا فِي خَرَابِ الْكَعْبَةِ، بَلْ كَانُوا عَمَرُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهَا وَيَرَوْنَهَا مَنَاطَ عِزِّهِمْ وَمَحِلَّ شَرَفِهِمْ وَفَخْرِهِمْ.وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ فِي الْأَمْرَيْنِ عَلَى التَّوْزِيعِ، فَالَّذِينَ مَنَعُوا مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ هُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ، وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي خَرَابِهَا هُمْ مُشْرِكُو الرُّومَانِيِّينَ.وَيَكُونُ قَرْنُ مَا عَمِلَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مَنْعِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ اسْمُ اللهِ بِزِيَارَةِ النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ بِمَا عَمِلَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الرُّومَانِيِّينَ مِنَ التَّخْرِيبِ مِنْ قَبِيلِ الْإِشَارَةِ إِلَى تَسَاوِي الْفِعْلَيْنِ فِي الْقَبِيحِ.الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مُنْبِئَةً بِأَمْرٍ وَقَعَ، وَلَكِنْ بِأَمْرٍ سَيَقَعُ، وَهُوَ مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ إِغَارَةِ الصَّلِيبِيِّينَ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَغَيْرِهِ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَصَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَتَخْرِيبِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَاجِدِ.الرَّابِعُ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مُنْبِئَةٌ عَنْ أَمْرٍ سَيَقَعُ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا حَادِثَةُ الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ هَدَمُوا الْكَعْبَةَ وَمَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، وَهَدَمُوا كَثِيرًا مِنَ الْمَسَاجِدِ، كَأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي طَعْنِ الْيَهُودِ مِنْهُمْ بِالنَّصَارَى وَقَوْلِهِمْ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ، وَطَعْنِ النَّصَارَى فِي الْيَهُودِ كَذَلِكَ، وَبَعْدَ قَوْلِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ: إِنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ، لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا سَيَقَعُ لِلْمُسْلِمِينَ وَفِي الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْبَأَ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْحَادِثَةِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ فَوَقَعَتْ، وَكَانَتْ حَادِثَتُهُمْ مِنْ أَكْبَرِ الْأَحْدَاثِ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمُ اسْتَوْلَوْا عَلَى جُزْءٍ كَبِيرٍ مِنْ مَمَالِكِ الْإِسْلَامِ وَهَدَمُوا الْمَسَاجِدَ، وَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَلَمْ يَكُنْ فِي أَيَّامِ الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ عَلَى طُولِهَا مِنَ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ مِثْلَمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ الْقَرَامِطَةِ فَالْآيَاتُ عَلَى هَذَا مُبَيِّنَةٌ لِأَحْوَالِ جَمِيعِ الْمِلَلِ.قَالَ شَيْخُنَا: سَوَاءً كَانَتِ الْآيَةُ فِي حَادِثَةٍ وَاقِعَةٍ أَوْ مُنْتَظَرَةٍ أَوْ كَانَتْ وَعِيدًا لِلَّذِينِ لَا يَحْتَرِمُونَ الْمَعَابِدَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، هِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ نَاطِقَةٌ بِوُجُوبِ احْتِرَامِ كُلِّ مَعْبَدٍ يُذْكَرُ فِيهِ اسْمُ اللهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ وَبِتَحْرِيمِ السَّعْيِ فِي خَرَابِ الْمَعَابِدِ، وَبِالْحُكْمِ عَلَى الَّذِينَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْهَا وَيَسْعَوْنَ فِي خَرَابِهَا- أَيْ هَدْمِهَا أَوْ تَعْطِيلِ شَعَائِرِهَا وَمَنْعِ عِبَادَةِ اللهِ فِيهَا- بِكَوْنِهِمْ أَظْلَمَ النَّاسِ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَإِبْطَالَ شَعَائِرِ الْمَعَابِدِ الَّتِي تُذَكِّرُ بِهِ، وَتُشْعِرُ الْقُلُوبَ عَظَمَتَهُ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ الدِّينِ يُفْضِي إِلَى نِسْيَانِ النَّاسِ الرَّقِيبَ الْمُهَيْمِنَ عَلَيْهِمْ، فَيُمْسُونَ كَالْهُمْلِ وَتَفْشُو فِيهِمُ الْمُنْكَرَاتُ وَالْفَوَاحِشُ، وَانْتِهَاكُ الْحُرُمَاتِ، وَهَضْمُ الْحُقُوقِ، وَسَفْكُ الدِّمَاءِ. وَعِبَادَةُ اللهِ تَعَالَى بِذِكْرِهِ وَالصَّلَاةُ لَهُ تَنْهَيْ بِطَبِيعَتِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا عَسَاهُ يَطْرَأُ عَلَى الْعِبَادَةِ أَوْ يُوجَدُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ الَّتِي لَمْ يَأْمُرْ بِهَا الْكِتَابُ، فَمَنْ عَلِمَ بِهَذِهِ الْبِدَعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَهَا وَيَسْعَى فِي إِزَالَتِهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ السَّعْيُ فِي إِزَالَةِ الْمَعَابِدِ مِنَ الْأَرْضِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ. وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِاحْتِرَامِ كَنَائِسِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبِيَعِهِمْ وَصَوَامِعِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ، وَاحْتِرَامِ مَعَابِدِ الَّذِينَ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ أَيْضًا كَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ، بَلِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَعُدُّ الصَّابِئِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا الْوَثَنِيُّونَ الْخُلَّصُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ وَيَبْنُونَ الْمَسَاجِدَ لِذِكْرِ غَيْرِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى سِوَاهُ، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِهِمْ وَلَمْ يَتَوَعَّدْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ مِنْ سُخْفِهِمْ.أَقُولُ: لَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ هَدْمُ مَا بُنِيَ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْقِبَابِ عَلَى قُبُورِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ، وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَارْتَكَبُوا فِيهَا الْمَحْظُورَاتِ الْكَثِيرَةَ الَّتِي يُعَدُّ بَعْضُهَا مِنَ الشِّرْكِ الصَّرِيحِ وَبَعْضُهَا مِنَ الْبِدَعِ وَالْمَعَاصِي، وَلاسيما الْمَعَاصِي الَّتِي تُفْعَلُ تَدَيُّنًا وَتَقَرُّبًا وَتَوَسُّلًا إِلَى اللهِ تَعَالَى، كَمَا تَرَى فِي كِتَابِ الزَّوَاجِرِ لِلْفَقِيهِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ وَيَحْتَجُّونَ بِهَدْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ، إِنَّمَا يَعْنِي شَيْخُنَا بِتَعْطِيلِ الْمَسَاجِدِ هُنَا إِبْطَالَ التَّدَيُّنِ وَالْعِبَادَةِ مُطْلَقًا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي، لَا إِبْطَالَ الْبِدَعِ الَّتِي شَوَّهَتِ الْإِسْلَامَ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْمَسَاجِدِ: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} أَيْ فَكَيْفَ يَدْخُلُونَهَا مُفْسِدِينَ وَمُخَرِّبِينَ؟ وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى أَمْرٍ إِلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِيهِ وَالْعِلْمِ بِدَرَجَةِ نَفْعِهِ أَوْ ضَرِّهِ. وَمَا كَانَتْ عِبَادَةُ اللهِ تَعَالَى إِلَّا نَافِعَةً وَمَا كَانَ تَرْكُهَا إِلَّا ضَارًّا.وَمَا عَسَاهُ يُوجَدُ فِي عِبَادَاتِ الْأُمَمِ مِنَ الْخُرَافَاتِ الضَّارَّةِ، فَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ مِنْهُ مَا فِيهِ مِمَّا يُبْعِدُ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَيُوقِعُ فِي إِشْرَاكِ غَيْرِهِ فِيهَا، عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمَمْزُوجَةَ بِنَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ أَهْوَنُ مِنَ التَّعْطِيلِ الْقَاضِي بِالْجُحُودِ الْمُطْلَقِ؛ لِذَلِكَ تَوَعَّدَ اللهُ تَعَالَى أُولَئِكَ الْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ بِقَوْلِهِ: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فَأَمَّا خِزْيُ الدُّنْيَا فَهُوَ مَا يُعْقِبُهُ الظُّلْمُ مِنْ فَسَادِ الْعُمْرَانِ، الْمُفْضِي إِلَى الذُّلِّ وَالْهَوَانِ، وَنَاهِيكَ بِظُلْمٍ يَحِلُّ الْقُيُودَ وَيَهْدِمُ الْحُدُودَ، وَيُغْرِي النَّاسَ بِالْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِمْ سُبُلَ الشُّرُورِ وَالْمُوبِقَاتِ، وَهُوَ ظُلْمُ إِبْطَالِ الْعِبَادَةِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَالسَّعْيِ فِي خَرَابِ الْمَعَابِدِ، إِذَا وَقَعَ هَذَا الظُّلْمُ كَانَ الْحَاكِمُ الظَّالِمُ مَخْذُولًا فِي حُكْمِهِ، وَالْفَاتِحُ الظَّالِمُ غَيْرَ أَمِينٍ فِي فَتْحِهِ، وَإِذَا أَرَدْتَ تَطْبِيقَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِمْ هَذَا الظُّلْمُ فَانْظُرْ مَاذَا حَلَّ بِالرُّومَانِيِّينَ، وَمَاذَا كَانَتْ عَاقِبَةُ الْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ، وَبِمَاذَا انْتَهَى عُدْوَانُ الصَّلِيبِيِّينَ، وَكَيْفَ انْقَرَضَ حِزْبُ الْقَرَامِطَةِ الْمُجْرِمِينَ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَاللهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَنَحْنُ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}، ذَهَبَ الْمُفَسِّرُ الْجَلَالُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْأَرْضُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّهُمَا نَاحِيَتَاهَا، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} أَيْ أَيَّ مَكَانٍ تَسْتَقْبِلُونَهُ فِي صَلَاتِكُمْ فَهُنَاكَ وَجْهُ الْقِبْلَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِأَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهَا. وُوَجَّهَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَابِدِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ وَجْهَ الْمَعْبُودِ، وَلَمَّا كَانَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهًا عَنِ الْمَادَّةِ وَالْجِهَةِ وَاسْتِقْبَالُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَحِيلًا، شَرَعَ لِلنَّاسِ مَكَانًا مَخْصُوصًا يَسْتَقْبِلُونَهُ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ. وَجَعَلَ اسْتِقْبَالَ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَاسْتِقْبَالِ وَجْهَهُ- تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ}... إِلَخْ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ الْجَلَالُ فِي تَفْسِيرِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا الْجِهَتَانِ الْمَعْلُومَتَانِ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ وَلِذَلِكَ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [55: 17] وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ مَا قَالَهُ الْجَلَالُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ عَلَى كُلِّ حَالٍ: أَيَّةُ جِهَةٍ اسْتَقْبَلْتَ وَتَوَجَّهْتَ إِلَيْهَا فِي صَلَاتِكَ فَأَنْتَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ كُلَّ الْجِهَاتِ لَهُ {إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ} لَا يَتَحَدَّدُ وَلَا يُحْصَرُ، فَيَصِحُّ أَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، {عَلِيمٌ} بِالْمُتَوَجِّهِ إِلَيْهِ أَيْنَمَا كَانَ، أَيْ فَاعْبُدِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ أَيْنَمَا حَلَلْتَ، وَلَا تَتَقَيَّدْ بِالْأَمْكِنَةِ، فَإِنَّ مَعْبُودَكَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ.أَقُولُ: بَلْ هُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ بَائِنًا مِنْهُ.وَأَزْيَدُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ رُوَاةِ الْمَأْثُورِ قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى قِبْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا فِيهِ آيَاتٌ مُفَصَّلَةٌ سَتَأْتِي فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ تَطَوُّعٍ فِي السَّفَرِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا فِيمَنْ يَجْتَهِدُونَ فِي الْقِبْلَةِ فَيُخْطِئُونَ فَإِنَّ صَلَاتَهُمْ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ إِيجَابَ اسْتِقْبَالِ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَعْنَى الِاجْتِمَاعِيِّ فِي الصَّلَاةِ وَوَحْدَةِ الْأُمَّةِ فِيهَا، وَالتَّعْلِيلُ يَصِحُّ فِي كُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّهُ أَيْنَمَا تَوَجَّهَ الْمُصَلِّيفي صَلَاتِهِ الصَّحِيحَةِ فَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى لَا يَقْصِدُ بِصَلَاتِهِ غَيْرَهُ، وَهُوَ تَعَالَى مُقْبِلٌ عَلَيْهِ رَاضٍ عَنْهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَلْتَزِمُونَ فِي صَلَاتِهِمْ جِهَةً مُعَيَّنَةً كَالْتِزَامِ النَّصَارَى جِهَةَ الْمَشْرِقِ، وَأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ يَقْتَضِي أَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ كُلِّ قُطْرٍ إِلَى جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ فَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَوَجُّهَهَمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالْوَجْهُ هُنَا قِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى الْجِهَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ لُغَةً، وَالْمَعْنَى: فَهُنَاكَ الْقِبْلَةُ الَّتِي يَرْضَاهَا لَكُمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى حَدِّ {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [58: 7].وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ وَالِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، فَإِنَّ فِيهَا إِبْطَالَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمِلَلِ السَّابِقَةِ مِنِ اعْتِقَادِ أَنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ إِلَّا فِي الْهَيْكَلِ وَالْمَعْبَدِ الْمَخْصُوصِ، وَفِي إِبْطَالِ هَذَا إِزَالَةُ مَا عَسَاهُ يُتَوَهَّمُ مِنْ وَعِيدِ مَنْ مَنْعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ مِنْ أَنَّهُ وَعِيدٌ عَلَى إِبْطَالِ الْعِبَادَةِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَخْصُوصَةِ؛ لِأَنَّهُ إِبْطَالٌ لَهَا بِالْمَرَّةِ، إِذْ لَا تَصِحُّ إِلَّا فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَنْفِي ذَلِكَ التَّوَهُّمَ مِنْ حَيْثُ تُثْبِتُ لَنَا قَاعِدَةً مِنْ أَهَمِّ قَوَاعِدِ الِاعْتِقَادِ، وَهِيَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا تُحَدِّدُهُ الْجِهَاتُ، وَلَا تَحْصُرُهُ الْأَمْكِنَةُ، وَلَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالْبِقَاعِ وَالْمَعَاهِدِ، وَلَا تَنْحَصِرُ عِبَادَتُهُ فِي الْهَيَاكِلِ وَالْمَسَاجِدِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ الْوَعِيدُ لِانْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللهِ وَإِبْطَالِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ عِبَادَتِهِ، وَهُوَ الْعِبَادَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الَّتِي يَجْتَمِعُ لَهَا النَّاسُ فِي أَشْرَفِ الْمَعَاهِدِ عَلَى خَيْرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُطَهِّرُ نُفُوسَهُمْ وَتُهَذِّبُ أَخْلَاقَهُمْ.وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْبَيَانِ مِمَّا امْتَازَ بِهِ الْقُرْآنُ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ، فَإِنَّكَ لَتَرَى فِيهِ فُنُونًا مِنَ الِاسْتِدْرَاكِ وَالِاحْتِرَاسِ قَدْ جَاءَتْ فِي خِلَالِ الْقَصَصِ وَسِيَاقِ الْأَحْكَامِ، تَقْرَأُ الْآيَةَ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ عِظَةٍ مِنَ الْمَوَاعِظِ، أَوْ وَاقِعَةٍ تَارِيخِيَّةٍ فِيهَا عِبْرَةٌ مِنَ الْعِبَرِ، فَتَرَاهَا مُسْتَقِلَّةً بِالْبَيَانِ، وَلَكِنَّهَا بِاتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا قَدْ أَزَالَتْ وَهْمًا أَوْ تَمَّمَتْ حُكْمًا، وَكَانَ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَقْتَبِسُوا هَذِهِ الضُّرُوبَ مِنَ الْبَيَانِ، وَيَتَوَسَّعُوا بِهَا فِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ أَطْلَقَ لَهُمُ اللُّغَةَ مِنْ عِقَالِهَا، وَعَلَّمَهُمْ مِنَ الْأَسَالِيبِ الرَّفِيعَةِ مَا كَانَتْ تَسْتَحْلِيهِ أَذْوَاقُهُمْ، وَتَنْفَعِلُ لَهُ قُلُوبُهُمْ، وَتَهْتَزُّ لَهُ نُفُوسُهُمْ، وَتَتَحَرَّكُ بِهِ أَرْيَحِيَّتُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُوَفَّقُوا لِاقْتِبَاسِ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ الْجَدِيدَةِ، عَلَى أَنَّ مَلَكَتَهُمْ فِي حُسْنِ الْبَيَانِ، قَدِ ارْتَفَعَتْ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ.قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَسَنُعْطِي هَذَا الْمَوْضُوعَ حَقَّهُ مِنَ الْبَيَانِ فِي مَوْضِعٍ تَكُونُ مُنَاسَبَتُهُ أَقْوَى مِنْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ.ثُمَّ عَادَ الْكِتَابُ إِلَى النَّسَقِ السَّابِقِ فِي تَعْدَادِ مَخَازِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ بَعْدَمَا ذَكَرَ مِنْ وَعِيدِ مَنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ مَا ذَكَرَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ بَعِيدٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا}، فَهَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [2: 111] وَقَوْلِهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} [2: 113]... إِلَخْ، وَيَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ هَذَا إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ جَمِيعًا. وَإِلَى فِرْقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ. وَوَجْهُ الْعُمُومِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِأَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ، وَأَنَّ النَّصَارَى قَالَتِ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللهِ. وَلَا فَرْقَ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تُسْنَدُ إِلَى الْأُمَمِ بَيْنَ كَوْنِهَا صَدَرَتْ مِنْ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ أَوْ صَدَرَتْ مِنْ بَعْضِهِمْ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِسْنَادِ مُنْبِئٌ بِتَكَافُلِ الْأُمَمِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ كَلِمَةَ {عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} قَالَهَا بَعْضُ الْيَهُودِ لَا كُلُّهُمْ.وَكَذَلِكَ اعْتِقَادُ كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ بَنَاتِ اللهِ لَمْ يَكُنْ عَامًّا فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ عَنْ بَعْضِهِمْ. ثُمَّ رَدَّ عَلَى مُدَّعِي اتِّخَاذِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ: {سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِكَلِمَةِ سُبْحَانَهُ الَّتِي تُفِيدُ التَّنْزِيهَ، مَعَ التَّعَجُّبِ مِمَّا يُنَافِيهِ، كَأَنَّ الَّذِي يَعْرِفُهُ تَعَالَى لَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي يُشْعِرُ بِأَنَّ لَهُ تَعَالَى جِنْسًا يُمَاثِلُهُ، فَإِنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ عَلَى عِلْمٍ بِاللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ زَاعِمًا فِيهِ الْمَزَاعِمَ وَظَانًّا فِيهِ الظُّنُونَ، أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ كَمَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الظَّانُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ لَا جِنْسَ لَهُ فَيَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مِنْهُ، وَهَذَا الْوَلَدُ الَّذِي نَسَبُوهُ إِلَيْهِ تَعَالَى لابد أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَهُوَ السَّمَاءُ، أَوْ مِنَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَهُوَ الْأَرْضُ، وَلَا يَصْلُحُ شَيْءٌ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ مُجَانِسًا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ، قَانِتٌ لِعِزَّتِهِ وَجَلَالِهِ، أَيْ خَاضِعٌ لِقَهْرِهِ مُسَخَّرٌ لِمَشِيئَتِهِ، فَإِذَا كَانُوا سَوَاءً فِي كَوْنِهِمْ مُسَخَّرِينَ لَهُ بِفِطْرَتِهِمْ، مُنْقَادِينَ لِإِرَادَتِهِ بِطَبِيعَتِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ، فَلَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِتَخْصِيصِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ وَجَعْلِهِ وَلَدًا مُجَانِسًا لَهُ {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [19: 93] نَعَمْ إِنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَخْتَصَّ مَنْ شَاءَ كَمَا اخْتَصَّ الْأَنْبِيَاءَ بِالْوَحْيِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ لَا يَرْتَقِي بِالْمَخْلُوقِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْخَالِقِ، وَلَا يُعَرِّجُ بِالْمَوْجُودِ الْمُمْكِنِ إِلَى دَرَجَةِ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا يُودِعُ سُبْحَانَهُ فِي فِطْرَةِ مَنْ شَاءَ مَا يُؤَهِّلُهُ لِمَا شَاءَ مِنْهُ {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [20: 50] وَلَيْسَتْ شُبْهَةُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا بَعْضَ الْبَشَرِ آلِهَةً بِأَمْثَلَ مِنْ شُبْهَةِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا بَعْضَ الْكَوَاكِبِ آلِهَةً، إِذِ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَظْهَرُ مَثَلًا مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمَسِيحِ، وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَقَالُوا: هُوَ ابْنُ اللهِ أَوْ هُوَ اللهُ.وَقَدْ غَلِّبَ فِي الْمِلْكِيَّةِ مَا لَا يَعْقِلُ فَقَالَ: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ}... إِلَخْ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِتَسْخِيرِهَا لَهُ التَّسْخِيرُ الطَّبِيعِيُّ الَّذِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الِاخْتِيَارُ، لَا التَّسْخِيرُ الشَّرْعِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْكَاسِبُ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَسْتَوِي فِي التَّسْخِيرِ الطَّبِيعِيِّ الْعَاقِلُ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنَّهُ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ أَظْهَرُ.وَلَمَّا ذَكَرَ الْقُنُوتَ لَهُ تَعَالَى، جَمَعَهُ بِضَمِيرِ الْعَاقِلِ فَغَلَبَ فِيهِ الْعُقَلَاءُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْقُنُوتِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَاقِلِ الَّذِي يَشْعُرُ بِمُوجَبِهِ وَيَفْعَلُهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ قُنُوتٌ يَلِيقُ بِهِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْآيَةَ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُسَخَّرٌ لِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ، فَقَدْ حَكَمَ عَلَى الْجَمِيعِ بِالْمِلْكِيَّةِ وَبِالْقُنُوتِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّسْخِيرُ وَقَبُولُ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمِلْكِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ وَهِيَ كَلِمَةُ مَا؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي ذَوْقِ اللُّغَةِ وَعُرْفِ أَهْلِهَا أَنَّ الْمِلْكَ يَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يَعْقِلُ، وَعِنْدَ ذِكْرِ الْقُنُوتِ عَبَّرَ عَنْهُ بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَمِمَّا يُعْهَدُ مِنْهُمْ وَيُسْنَدُ إِلَيْهِمْ لُغَةً وَعُرْفًا وَهَذَا كَمَا تَرَى مِنْ أَدَقِّ التَّعْبِيرِ وَأَلْطَفِهِ، وَأَعْلَى الْبَيَانِ وَأَشْرَفِهِ.ثُمَّ زَادَ هَذَيْنَ الْحُكْمَيْنِ بَيَانًا وَتَأْكِيدًا فَقَالَ: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْبَدِيعَ بِمَعْنَى الْمُبْدِعِ، فَهُوَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ أَبْدَعَ وَاسْتَشْهَدُوا بِبَيْتٍ مِنْ كَلَامِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ جَاءَ فِيهِ {سَمِيعٌ} بِمَعْنَى مُسْمِعٍ، وَقَالُوا: قَدْ تَعَاقَبَ فَعِيلٌ وَمُفْعِلٌ فِي حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ كَحَكِيمٍ وَمُحْكِمٍ، وَقَعِيدٍ وَمُقْعِدٍ، وَسَخِينٍ وَمُسْخِنٍ. وَقَالُوا: إِنَّ الْإِبْدَاعَ هُوَ إِيجَادُ الشَّيْءِ بِصُورَةٍ مُخْتَرَعَةٍ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي سَبْقَ الْمَادَّةِ، وَأَمَّا الْخَلْقُ فَمَعْنَاهُ: التَّقْدِيرُ وَهُوَ يَقْتَضِي شَيْئًا مَوْجُودًا يَقَعُ فِيهِ التَّقْدِيرُ، وَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُبْدِعُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمُخْتَرِعُ لَهُمَا وَالْمُوجِدُ لِجَمِيعِ مَا فِيهِمَا، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهُ جِنْسٌ لَهُ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يُنْكِرُ فَعِيلًا بِمَعْنَى مُفْعِلٍ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ بِنَاؤُهُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ وَيَقُولُ: إِنَّ بَدِيعًا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِمَعْنَى لَا نَظِيرَ لَهُ، وَبَدِيعَ السَّمَاوَاتِ مَعْنَاهُ: الْبَدِيعَةُ سَمَاوَاتُهُ، وَفِي هَذَا تَرْكٌ لِلْقِيَاسِ الَّذِي قَضَى فِي الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ الَّتِي تُضَافُ إِلَى الْفَاعِلِ، أَنْ تَكُونَ مُتَضَمِّنَةً ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُوفِ، وَالْحَقُّ أَنَّ تَحْكِيمَ الْقِيَاسِ فِيمَا ثَبَتَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ تَحْكِيمٌ جَائِزٌ، فَمَا كَانَ لِلدَّخِيلِ فِي الْقَوْمِ أَنْ يَعْمِدَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْ كَلَامِهِمْ، فَيَضَعَ لَهَا قَانُونًا يُبْطِلُ بِهِ كَلَامًا آخَرَ ثَبَتَ عَنْهُمْ، وَيَعُدُّهُ خَارِجًا عَنْ لُغَتِهِمْ بَعْدَ ثُبُوتِ نُطْقِهِمْ بِهِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ صَحِيحَ الْمَعْنَى، حَكَمْنَا بِصِحَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَشَوَاهِدُهُ الْمَسْمُوعَةُ أَكْثَرُ.وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ إِيجَادَ أَمْرٍ وَإِحْدَاثَهُ، فَإِنَّمَا يَأْمُرُهُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، فَيَكُونُ مَوْجُودًا، فَكُنْ وَيَكُونُ مِنْ كَانَ التَّامَّةِ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ، أَيْ أَنَّ تَعَلُّقَ إِرَادَتِهِ تَعَالَى بِإِيجَادِ الشَّيْءِ يَعْقُبُهُ وَجُودُهُ، كَأَمْرٍ يَصْدُرُ فَيَعْقُبُهُ الِامْتِثَالُ، فَلَيْسَ بَعْدَ الْإِرَادَةِ إِلَّا حُصُولُ الْمُرَادِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ قَوْلٌ حَقِيقِيٌّ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْخِلَافُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَجِيبٌ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ مَذْهَبَيْنِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَهُمَا: مَذْهَبُ السَّلَفِ فِي التَّفْوِيضِ، وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ فِي التَّأْوِيلِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَالْقَاعِدَةُ فِي تَأْوِيلِ مِثْلِهِ مَعْرُوفَةٌ وَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ إِرْجَاعُ النَّقْلِيِّ إِلَى الْعَقْلِيِّ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَهَاهُنَا يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ وَأَنَّ مَعْنَى {يَكُونُ} يُوجَدُ.وَأَقُولُ: إِنَّ الْأَمْرَ بِكَلِمَةِ {كُنْ} هُنَا هُوَ الْأَصْلُ فِيمَا يُسَمُّونَهُ أَمْرَ التَّكْوِينِ، وَيُقَابِلُهُ أَمْرُ التَّكْلِيفِ، فَالْأَوَّلُ مُتَعَلِّقُ صِفَةِ الْإِرَادَةِ، وَالثَّانِي مُتَعَلِّقُ صِفَةِ الْكَلَامِ، وَأَمْرُ التَّكْلِيفِ يُخَاطَبُ بِهِ الْعَاقِلُ فَيُسَمَّى الْمُكَلَّفَ، وَلَا يُخَاطَبُ بِهِ غَيْرُهُ فَضْلًا عَنِ الْمَعْدُومِ، وَأَمْرُ التَّكْوِينِ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَعْدُومِ كَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمَوْجُودِ؛ إِذِ الْمُرَادُ بِهِ جَعْلُهُ مَوْجُودًا، وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ، فَاللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَأَنَّهُ سَيُوجَدُ فِي وَقْتِ كَذَا. فَتَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِوُجُودِهِ عَلَى حَسَبِ مَا فِي عِلْمِهِ فَيُوجَدُ. وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يُسَمِّيهِ الْأَمْرَ الْقَدَرِيَّ الْكَوْنِيَّ، وَيُسَمِّي مُقَابِلَهُ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ.قَرَأَ الْجُمْهُورُ {فَيَكُونُ} فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِضَمِّ النُّونِ عَلَى تَقْدِيرِ فَهُوَ يَكُونُ كَمَا أَرَادَ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إِلَّا فِي آلِ عِمْرَانَ وَالْأَنْعَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ بِالْفَاءِ يَكُونُ مَنْصُوبًا.ذَلِكَ شَأْنُهُ تَعَالَى فِي الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ، وَهُوَ أَغْمَضُ أَسْرَارِ الْأُلُوهِيَّةِ، فَمَنْ عَرَفَ حَقِيقَتَهُ فَقَدْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْمُبْدِعِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ مَا لَا مَطْمَعَ فِيهِ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ هَذَا السِّرِّ بِهَذَا التَّعْبِيرِ الَّذِي يُقَرِّبُهُ مِنَ الْفَهْمِ بِمَا لَا يَتَشَعَّبُ فِيهِ الْوَهْمُ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ تَعْبِيرٌ آخَرُ أَلْيَقَ بِهِ مِنْ هَذَا التَّعْبِيرِ: يَقُولُ لِلشَّيْءِ: {كُنْ فَيَكُونُ}، فَالتَّوَالُدُ مُحَالٌ فِي جَانِبِهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَا يُعْهَدُ فِي حُدُوثِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَتَوَلُّدِهَا مِنْ بَعْضٍ، فَهُوَ لَا يَعْدُو طَرِيقَيْنِ: الِاسْتِعْدَادُ الْقَهْرِيُّ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلِاخْتِيَارِ فِيهِ كَحُدُوثِ الْحَرَارَةِ مِنَ النُّورِ، وَتَوَلُّدِ الْعُفُونَةِ مِنَ الْمَاءِ يَتَّحِدُ بِغَيْرِهِ، وَالسَّعْيِ الِاخْتِيَارِيِّ كَتَوَلُّدِ النَّاسِ بِالِازْدِوَاجِ الَّذِي يُسَاقُونَ إِلَيْهِ مَعَ اخْتِيَارِهِ وَالْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُحَالًا عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَكَانَ تَعَالَى هُوَ الْمُبْدِعُ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، وَهِيَ بِأَسْرِهَا مِلْكُهُ وَمُسَخَّرَةٌ لِإِرَادَتِهِ فَلَا مَعْنَى لِإِضَافَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [37: 180- 182].{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}.قُلْنَا: إِنَّ السِّيَاقَ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْكَلَامِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ تُجَاهَ الْقُرْآنِ وَدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَرَسُولِهِ إِلَى الْكَلَامِ فِي شُئُونِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُمْ وَمَعَ النَّصَارَى وَالْوَثَنِيِّينَ، وَشَيْخُنَا لَا يَزَالُ يَجْعَلُ السِّيَاقَ وَاحِدًا غَيْرَ مُلْتَفِتٍ فِي التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ إِلَى هَذَا التَّفْصِيلِ لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ، وَقَدْ قَالَ هُنَا مَا مِثَالُهُ: الْكَلَامُ لَا يَزَالُ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ فِي الْإِيْمَانِ بِهِ وَعَدَمِ الْإِيْمَانِ، وَذَكَرَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ آنِفًا مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ، مَا تَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ عَدَمَ إِيْمَانِهِمْ بِالنَّبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ غَيْرُ قَادِحٍ فِيهِ، وَلَا يَنْهَضُ شُبْهَةً عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَطَاعِنَهُمْ فِيهِ مُتَهَافِتَةٌ مَنْقُوضَةٌ بِطَعْنِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَتَخَبُّطِهِمْ فِي أَمْرِ كُتُبِهِمْ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى ذِكْرِ شُبْهَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ جَرَوْا فِيهَا عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ مِنْ أَمْثَالِهِمُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ بِالضَّلَالِ فَقَالَ: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} أَيِ الْجَاهِلُونَ بِالْكِتَابِ وَالشَّرَائِعِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. وَقَالَ الْجَلَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ لَا يَعْلَمُونَ كُفَّارُ مَكَّةَ خَاصَّةً وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَيُرَجِّحُ الْعُمُومَ كَوْنُ الْآيَةِ مَدَنِيَّةً {لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ} كَمَا كَلَّمَ هَذَا الرَّسُولَ مَعَ أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُنَا {أَوْ تَأْتِيَنَا آيَةٌ} مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحْنَاهَا. يَعْنُونَ مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [17: 90] الْآيَاتِ {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} أَيْ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ قَالَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ أَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى الرُّسُلِ الِاخْتِصَاصَ بِالْوَحْيِ مِنْ دُونِهِمْ وَاقْتَرَحُوا عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ تَعَنُّتًا وَعِنَادًا {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} لِأَنَّ الطُّغْيَانَ قَدْ سَاوَى بَيْنَهُمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ تَوَاصَوْا بِمَا يَقُولُونَ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [51: 53] وَيُشْبِهُ هَذَا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْكُفْرَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَمُخَالَفَتَهُ هِيَ الْبَاطِلُ أَوِ الضَّلَالُ، وَهُوَ وَاحِدٌ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَاخْتَلَفَتْ وُجُوهُهُ؛ وَآثَارُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ الْكُلِّيِّ تَتَشَابَهُ فِيمَنْ تَصْدُرُ عَنْهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْجُزْئِيَّاتُ، وَالتَّشَابُهُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي مُكَابَرَةِ الْحَقِّ وَاسْتِبْعَادِ كَوْنِ وَاحِدٍ مِنَ الْبَشَرِ رَسُولًا يُوحَى إِلَيْهِ وَاقْتِرَاحِ الْآيَاتِ تَعَنُّتًا وَعِنَادًا.وَمِثَالُ الِاخْتِلَافِ فِي الْجُزْئِيَّاتِ طَلَبُ قَوْمِ مُوسَى رُؤْيَةَ اللهِ جَهْرَةً، وَطَلَبُ قَوْمِ مُحَمَّدٍ أَنْ يَرْقَى فِي السَّمَاءِ أَمَامَهُمْ فَيَأْتِيَهُمْ بِكِتَابٍ يَقْرَءُونَهُ، وَالطَّلَبُ الَّذِي مَصْدَرُهُ الْعِنَادُ وَالتَّعَنُّتُ لَا تُقَيَّدُ إِجَابَتُهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [6: 7] وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ جَاءَ بِآيَةٍ أَوْ آيَاتٍ كَوْنِيَّةٍ أَوْ عَقْلِيَّةٍ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَصِفُونَهُمْ بِالسِّحْرِ ثُمَّ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ حِكَايَةِ شُبْهَةِ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أَيْ أَنَّنَا لَمْ نَدَعْكَ يَا مُحَمَّدُ بِغَيْرِ آيَةٍ بَلْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ عَلَى يَدَيْكَ بَيَانًا لَا يَدَعُ لِلرَّيْبِ طَرِيقًا إِلَى نَفْسِ مَنْ يَعْقِلُهَا. وَقَدْ قَالَ: {بَيَّنَّا الْآيَاتِ} وَلَمْ يَقُلْ: أَعْطَيْنَاكَ الْآيَاتِ لِلتَّفْرِقَةِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ مِنْ عِلْمِ اللهِ وَكَلَامِهِ، يَظْهَرُ بِهَا الْحَقُّ بِطَرِيقٍ مَعْقُولٍ بَيِّنٍ لَا يَشْتَبِهُ فِيهِ الْفَهْمُ، وَلَا يَحَارُ فِيهِ الذِّهْنُ، وَبَيْنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ صُنْعِهِ يَسْتَخْذِي لَهَا الْعَقْلُ وَيَخْضَعُ لَهَا؛ لِشُعُورِهِ بِأَنَّهَا مِنْ قُوَّةٍ فَوْقَ قُوَّتِهِ. وَلِلنَّاسِ فِيمَا يَرَوْنَهُ فَوْقَ مَا يَعْقِلُونَ طَرِيقَانِ مَعْهُودَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يُسْنِدُهُ إِلَى الْقُوَّةِ الْغَيْبِيَّةِ الْعُلْيَا، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ سَبَبٌ خَفِيٌّ فِي الْوَاقِعِ أَوْ لَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسْنِدُهُ إِلَى الْأَسْبَابِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا السِّحْرَ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ قُدْرَةِ الْبَشَرِ؛ وَلِذَلِكَ ضَلَّتِ الْأُمَمُ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَضِلَّ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ مَعْقُولَةٌ وَلِذَلِكَ قَالَ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [2: 2].نَعَمْ إِنَّ الْآيَاتِ الْعِلْمِيَّةَ لَا يَعْقِلُهَا إِلَّا أَهْلُ الِاسْتِعْدَادِ لِلْعِلْمِ وَالْيَقِينِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الَّذِينَ يُوقِنُونَ هُمُ الَّذِينَ خَلَصَتْ نُفُوسُهُمْ مِنْ كُلِّ رَأْيٍ وَتَقْلِيدٍ، وَتَوَجَّهُوا إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ فِي الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ، وَأَخَذُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْعَهْدَ أَنْ يَطْلُبُوهُ بِدَلِيلِهِ وَبُرْهَانِهِ، فَهُمْ إِذَا قَامَ عِنْدَهُمُ الْبُرْهَانُ اعْتَقَدُوا وَأَيْقَنُوا إِيقَانًا، وَإِنَّمَا يُتَوَقَّعُ الْيَقِينُ مِنْ مِثْلِهِمْ لَا مِنْ قَوْمٍ يَعْتَقِدُونَ الشَّيْءَ أَوَّلًا بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، ثُمَّ يَلْتَمِسُونَ لَهُ الدَّلِيلَ؛ لِأَنَّ مُقَلِّدِيهِمْ قَالُوا بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ، فَإِذَا أَصَابُوهُ مُوَافِقًا لِمَا اعْتَقَدُوا، رَضُوا بِهِ وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا، وَإِذَا نَهَضَ لَهُمْ مُخَالِفًا لِتَقَالِيدِهِمْ، رَفَضُوهُ وَتَعَلَّلُوا بِالتَّعِلَّاتِ الْمُنْتَحَلَةِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْجَمَاهِيرُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ وُصِفُوا فِي الْأَثَرِ بِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، وَالْعِبْرَةُ فِي خِطَابِ الشَّرْعِ بِأَهْلِ الْيَقِينِ الَّذِينَ صَفَتْ نُفُوسُهُمْ، وَمُحِّصَتْ أَفْكَارُهُمْ، فَسَلِمُوا مِنْ عِلَّةِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ الْمَانِعَيْنِ لِشُعَاعِ الْحَقِّ أَنْ يَنْفُذَ إِلَى الْعُقُولِ، وَلِحَرَارَتِهِ أَنْ تَخْتَرِقَ الصُّدُورَ إِلَى الْقُلُوبِ، هَؤُلَاءِ هُمْ أَنْصَارُ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُمْ بِيَقِينِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْمُرُوقَ مِنْهُ، وَلَا السُّكُوتَ عَنِ الِانْتِصَارِ لَهُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُرَاجِعُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ دَلِيلُهُ؛ لِأَنَّهُمْ طُبِعُوا عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ، هَؤُلَاءِ هُمُ النَّاسُ الَّذِينَ تَنْزِلُ الشَّرَائِعُ لِأَجْلِهِمْ، وَلَوْلَا اسْتِعْدَادُهُمْ لَهَا لَمَا شُرِعَتْ أَوْ لَمَا نَجَحَتْ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَتَبَعٌ لَهُمْ وَعِيَالٌ عَلَيْهِمْ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} أَيْ بِالشَّيْءِ الثَّابِتِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي لَا يَضِلُّ مَنْ يَأْخُذُ بِهِ، وَلَا تَعْبَثُ بِهِ رِيَاحُ الْأَبَاطِيلِ وَالْأَوْهَامِ، بَلْ يَكُونُ الْآخِذُ بِهِ سَعِيدًا بِالطُّمَأْنِينَةِ وَالْيَقِينِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْحَقَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَشْمَلُ الْعُلُومَ الِاعْتِقَادِيَّةَ وَغَيْرَهَا فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْعَقَائِدِ الْحَقِّ الْمُطَابِقَةِ لِلْوَاقِعِ، وَالشَّرَائِعِ الصَّحِيحَةِ الْمُوصِلَةِ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {بَشِيرًا} لِمَنْ يَتَّبِعُ الْحَقَّ بِالسَّعَادَتَيْنِ، {وَنَذِيرًا} لِمَنْ لَا يَأْخُذُ بِهِ بِشَقَاءِ الدُّنْيَا وَخِزْيِ الْآخِرَةِ {وَلَا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} أَيْ فَلَا يَضُرُّكَ تَكْذِيبُ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُسَاقُونَ بِجُحُودِهِمْ إِلَى الْجَحِيمِ؛ لِأَنَّكَ لَمْ تُبْعَثْ مُلْزِمًا لَهُمْ وَلَا جَبَّارًا عَلَيْهِمْ، فَيُعَدُّ عَدَمُ إِيْمَانِهِمْ تَقْصِيرًا مِنْكَ تُسْئَلُ عَنْهُ، بَلْ بُعِثْتَ مُعَلِّمًا وَهَادِيًا بِالْبَيَانِ وَالدَّعْوَةِ وَحُسْنِ الْأُسْوَةِ، لَا هَادِيًا بِالْفِعْلِ وَلَا مُلْزِمًا بِالْقُوَّةِ، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [2: 272] وَفِي الْآيَةِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يَضِيقَ صَدْرُهُ، كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ أُخْرَى، وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْعِبْرَةِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بُعِثُوا مُعَلِّمِينَ لَا مُسَيْطِرِينَ، وَلَا مُتَصَرِّفِينَ فِي الْأَنْفُسِ وَلَا مُكْرِهِينَ، فَإِذَا جَاهَدُوا فَإِنَّمَا يُجَاهِدُونَ دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ لَا إِكْرَاهًا عَلَيْهِ، وَفِيهَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُطَالِبُ النَّاسَ بِأَنْ يَأْخُذُوا عَنْهُمْ إِلَّا الْعِلْمَ الَّذِي يَهْدِيهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَفِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَيَعْقُوبَ: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} بِالنَّهْيِ، أَيْ لَا تَسْأَلْ عَمَّا سَيُلَاقُونَ مِنَ الِانْتِقَامِ فَإِنَّهُ عَظِيمٌ، فَمِثْلُ هَذَا النَّهْيِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْوِيلِ لَا فِي حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى الْيَوْمِ.وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ النَّهْيَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّهُ خَاصٌّ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ أَبَوَيْهِ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ قَبْرَيْهِمَا فَدَلَّهُ عَلَيْهِمَا، فَزَارَهُمَا وَدَعَا لَهُمَا وَتَمَنَّى لَوْ يَعْرِفُ حَالَهُمَا فِي الْآخِرَةِ وَقَالَ: «لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ»؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ. وَالْحَدِيثُ قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: إِنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَثَرٌ مُعْضَلٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ.قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَقَدْ فَشَا هَذَا الْقَوْلُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ نَذْكُرْهُ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ بِذِكْرِهِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْبَاطِلَ صَارَ يَفْشُو فِي الْمُسْلِمِينَ بِضَعْفِ الْعِلْمِ، وَالصَّحِيحَ يُهْجَرُ وَيُنْسَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَقَامَ النَّبِيِّ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي مَعْرِفَةِ أَسْرَارِ الدِّينِ وَحُكْمِ اللهِ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يُنَافِي صُدُورَ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ أُسْلُوبَ الْقُرْآنِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ مِنْهُ. اهـ.
|